الحمد لله عز وجل، ما أجل سلطانه، وأعظم شأنه، وأعم إحسانه، إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[الأعراف: 56]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُعز من يشاء بعلمه وحكمته ويُذل من يشاء بعدله وقدرته وهو أعدل العادلين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ربّى وعلّم، وأدّب وقوّم، فكان إمام المصلّين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله مصابيح الدُّجى، وأصحابه مفاتيح الهدى، وأتباعه خير الورى، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران:102].
الحديث عن العظماء من العلماء ليس أمرًا سهلاً، فمهما اجتهدت لتستوعب حياة أحدهم فسيعجز قلمك، ويقصر علمك، بل قد يغيب عنك الأهم دلالة والأبلغ تأثيرًا. سيرة العظماء من العلماء الأوائل هي القدوة المثلى، وإبرازها تحفيز لفتياننا وفتياتنا للإفادة منها، ولئلا يلتفتوا لقدوات هزيلة هابطة لا وزن لها في الحياة ولا قيمة لها في التاريخ.
حديثنا عن العلماء ليس تعصّبًا لأحد منهم، فكل إنسان منهم يُأخذ منه ويُرد إلا المعصوم .
عظيمنا، إمام نشأ في طيبة الطيبة ونهل من معينها وارتفع ذكره وملأ الأرض علمه، جلس للتدريس في جنبات هذا المسجد النبوي الشريف حتى إذا قيل "عالم المدينة" أو "إمام دار الهجرة" لا ينصرف إلا إليه.
ولد الإمام مالك بن أنس في مدينة رسول الله ، نشأ محبًا للعلم مغترفًا منه، على الرغم من فقره وقلة حاله. أم الإمام مالك أحسنت توجيه ابنها، أتت له وقالت: "اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه"، هذه المرأة عرفت دورها في الحياة، ورسالتها في التربية وإعداد الجيل، وأن الأدب قرين العلم، ولا قيمة للعلم بلا أدب، والأدب في ابتداء العلم وأثناء العلم، فصنعت هذه المرأة رجلاً صنع أُمّة.
ليست مهمة الأم تغذية الجسد والعمل على وقايته من الأمراض فحسب، بل رسالتها أجلّ وأكبر وأعظم، رسالتها تقوية الإيمان، وبناء الشخصية وتنمية العقل، وحفز الهمم نحو المعالي، ولن تبلغ ذلك حتى تزوي كل الهموم الدنيوية أمام هم التربية الأكبر. لقد صبغت هذه الكلمة حياة مالك حقيقة لا قولاً، وواقعًا لا خيالاً، فغدا مدرسة في الأدب ينهل طلابه من هيئته وسمته، وتقتبس الأمة من سيرته.
قال مالك لفتىً من قريش: "يا ابن أخي تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم"، وقال ابن وهب: "الذي تعلمنا من أدب مالك أكثر ما تعلمناه من علمه"، وقد تعلموا منه علمًا كثيرًا. وقال يحي بن يحي التميمي: "أقمت عند مالك ابن أنس بعد كمال سماعي منه سنة أتعلم هيئته وشمائله فإنها شمائل الصحابة والتابعين".
إن الأسلوب الحديث في التعليم يبدو أحيانًا نصوصًا مجردة من مضامينها الأدبية ومدلولاتها الخُلقية ففقد التعليم بذلك بهاءه وجماله وأثره واتساعه، وإذا فُصل بين العلم والأدب فمهما كان المخزون العلمي والثراء المعرفي فإنك واجد ضعفًا شديدًا في أثر العلم على الأخلاق والسلوك وتزكية الأعمال وصلاح القلوب، ولا خير في علم امرئ لم يُكسبه أدبًا ويُهذِّبه خُلقًا.
الجفوة بين العلم والأدب تُفرز أعراضًا مرضية منها التهجم على العلماء، والتطاول على الفضلاء، وسوء الأخلاق، وشذوذ السلوك، وعقوق الوالدين، والتقليد الأعمى في الهيئة واللباس، مع اعتداء على المعلمين والمربين بالأقوال والأفعال.
كان لطيبة الطيبة أثر ملموس في بناء شخصية الإمام مالك فقد كانت تعج بالعلماء والتابعين، تحتضنهم الجامعة الكبرى، والمدرسة الأولى، مسجد رسول الله ، على رأس كل حلقة من حلقات العلم في هذا المسجد النبوي يجلس عالم، والذين يرومون تربية صالحة لأبنائهم عليهم توفير محاضن آمنة دينًا صالحة خلقًا، لينشأ الفتى نقي السيرة سليم السريرة. ومن نافلة القول أن البيئة السيئة تهدم ولا تبني، ماذا يبقى بعد أن يلقن الابن صباحًا القيم الإسلامية، ثم يأوي مساءً إلى جلساء السوء يفسدون ما أصلحه الوالدان، وماذا يبقى بعد أن يلقن الولد الأدب لسنوات ثم يحمله والداه إلى أجواء ملوثة في دول لا تدين بالإسلام وهو ما زال غضًا طريًا، لتُنخر عقيدته ويضعف إيمانه وتُزلزل قيمه وأخلاقه.
جلس الإمام مالك للفُتيا ولم يجلس حتى شهد له سبعون شيخًا من أهل العلم أنه موضع لذلك، وفرق بين من يزكي نفسه ويصدّرها ومن يصدّره أهل العلم والفضل، يقول الإمام مالك: "وليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفُتيا جلس حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل، فإن رأوه أهل لذلك جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني موضع لذلك"، يقول الإمام مالك: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا رأيي، فما وافق السنة فخذوا به". يضع الإمام مالك -رحمه الله- منهجًا وسطًا بين من يتعصب للأئمة ويقلد تقليدًا أعمى، ويرفض الأدلة الصحيحة، وبين من يرفض أقوال الأئمة الأعلام ويقول: هم رجال ونحن رجال، وشتان ما بين رجال ورجال، شتان ما بين رجال خلّد الله ذكرهم على مرّ القرون وهم أموات، ورجال لا وزن لهم ولا ذكر وهم أحياء، أولئك تحيا القلوب بذكرهم، وهؤلاء يموت القلوب بمجالستهم. إذا ذكر الأئمة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، فهؤلاء معهم أقزام أولئك الأئمة لم يكونوا مجرد خزانة للنصوص، بل كانوا قممًا في الأدب والعلم، وكانوا علماء في التقوى، علماء في العبادة، علماء في الزهد والورع والخشية والخوف إلى غير ذلك.
من الخطأ -عباد الله- احتقار أعمال الآخرين، ومن الجهل ظن بعضًا أن ما يقوم به من الخير أفضل من غيره، أو يظن من أوتي شيئًا من العلم أن من سواه ليس على شيء أو ليس بشيء أو يظن من أنكر منكرًا أو أمر بمعروف أنه أفضل من غيره، فهذه القدرات والمواهب والإمكانات أرزاق من الله وليست من البشر، وهذا هو الفهم العظيم الذي يرسمه الإمام مالك للأمة بكل فئاتها أن خدمة الدين تنتظم الجميع في أي تخصص وميدان دون أن يحرّج أحد على أحد، فكل مسيّر لما خلق له.
كتب إلى الإمام مالك أحد عُبّاد عصره يحضّه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك -رحمه الله-: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق فرُب رجل فُتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد وآخر فتح له في العلم، ونشر العلم من أفضل الأعمال، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر" انتهى كلامه. فأصحاب الصدقات والعُباد والزهاد على خير، والباذلون في سبيل الله أوقاتهم والمنفقون أموالهم على خير، الوعاظ والدعاة والعلماء والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر على خير، والذين يخدمون الدين بتخصصاتهم العلمية وشهاداتهم العالمية كلهم على خير؛ إن أخلصوا النية لله رب العالمين لا شريك له. وفي الأمة أفراد يملكون قدرات عظيمة ومواهب فذّة لو سخروها واستثمروها لنفع مجتمعهم وخدمة أمتهم لكان لهم ولها شأن آخر.
كان مالك إذا سُئل عن مسألة قال للسائل انصرف حتى أنظر فيها، فينصرف ويتردد فيها، فقلنا له في ذلك، فبكى وقال: "إني أخاف أن يكون لي من السائل يوم وأي يوم". سأله رجل من أهل المغرب عن مسألة كلفه بها أهل المغرب أن يسأل الإمام مالكًا، فكان جواب الإمام مالك: "لا أدري، ما ابتلينا بهذه المسألة في بلدنا وما سمعنا أحدًا من أشياخنا تكلم فيها ولكن تعود"، وفي اليوم التالي عاد الرجل فقال له الإمام مالك: "سألتني وما أدري ما هي"، فقال الرجل: "يا أبا عبدالله تركت خلفي من يقول ليس على وجه الأرض أعلم منك"، فقال الإمام مالك: "لا أُحسن". وسأله أحدهم عن مسألة وطلب وقتًا للنظر فيها، فقال السائل هذه مسألة خفيفة، فردّ الإمام مالك: "ليس في العلم شئ خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5]"، وقال بعضهم لكأنما مالك -والله- إذا سُئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار. هؤلاء العلماء الذين ملئوا الدنيا بعلمهم وعملهم، يقول أحدهم أحيانًا: "لا أدري"، وإنك لتعجب أشد العجب من أقوام ليس لهم حظ يذكر من العلم الشرعي يؤهلهم للفُتيا ثم يقتحمون حمى الشريعة فيخوضون تحليلاً وتحريمًا، وقد تُطرح مسألة شرعية في منتدى أو مجلس فلا ينقضي المجلس حتى يُفتي الجميع على اختلاف فئاتهم وتخصصاتهم، هذا يقول في ظني، وذاك في اعتقادي، وآخر يجزم بالتحليل والتحريم، فسبحانك ربي هل غدا التحليل والتحريم والتوقيع عن رب العالمين مرتعًا للجهل والظنون والأوهام. لو خرج إلى الناس مهندس فأخذ يمارس الطب ويصف الدواء للمرضى ماذا تقولون عنه وبما تصفونه وما مصيره!، فكيف بمن يتقحّم حمى الشريعة ويسود صفحات الكتب والصحف بالتحليل والتحريم وهو ليس من أهل الشريعة، فضلاً عن أن يكون من أهل الفُتيا خاصة في نوازل الأمة التي لو نزلت على عُمر لجمع لها أهل بدر. لقد غدت الفتوى في عصرنا الحاضر مجالاً فسيحًا يتسابق فيه من يريد الشهرة أو من يلتمس رضى الناس بسخط الله. أخوة الإسلام مسائل العقيدة توقيفية لا يدخلها الاجتهاد، والمسائل التي فيها نص من الشارع لا يدخلها الاجتهاد، فالاجتهاد مع نص والمسائل المجمع عليها لا اجتهاد فيها، لأنه لا تجوز مخالفة الإجماع. إن على الأمة أن تكِل النظر في مسائل العلم إلى أهله من العلماء العاملين ويعطوا القوس باريها، وأن لا يدخلوا فيما لا يُحسنون في أي مسألة من الحلال والحرام لأن هذا قطع في حكم الله، يقول مالك -رحمه الله-: "من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عز وجل هو بارئ الخلق وواهب الرزق ومبدع الحياة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالعدل وهو خير العادلين، وأنصف في الحكم وهو أحكم الحاكمين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أصحابه الكرام وأتباعه الهداة الأعلام، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، عباد الله: قد ينقدح في بعض الأذهان أن هؤلاء الأئمة العلماء لا يجيدون إلا مسائل الخلاف ومناقشة الأقوال العلمية وتخلوا مجالسهم من أحاديث الوعظ والرقائق التي تلامس شغاف القلوب وتذكر الجنة والنار، ولإبراز شمول حِلقهم بشتى فنون العلم نشنف الآذان بموعظة بليغة يُذكِّر فيها الإمام مالك -رحمه الله- أخًا له في الله فيقول: "ذكر نفسك غمرات الموت وكُربه، وما هو نازل به منك، وما أنت موقوف عليه بعد الموت من العرض على الله ثم الحساب ثم الخلود بعد الحساب إلى الجنة أو إلى النار، وأعدّ له ما يسهل عنك به عنت أهوال تلك المشاهد وكربها، فإنك لو رأيت أهل سخط الله وما صاروا إليه من أهوال العذاب وشدة نقمة الله وسمعت زفيرهم في النار وشهيقهم مع كلوح وجوههم لا يبصرون ولا يتكلمون، يدعون بالثبور، وأعظم من ذلك حسرة إعراض الله تعالى عنهم بوجهه وانقطاع رجائهم في إجابته إياهم حيث: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون:108].
مرض الإمام مالك اثنين وعشرين يومًا، وبلغ من عمره حين وفاته سبعًا وثمانين سنة وقيل بلغ تسعين سنة. وعن ابن نافع: تُوفي مالك وهو ابن سبع وثمانين سنة، وأقام مُفتيًا بالمدينة بين أظهرهم ستين سنة،
رحم الله مالكًا فقد كان يقول: "أدركت ناسًا في المدينة لم تكن لهم عيوب فتكلموا في عيوب الناس فأحدث الناس لهم عيوبًا، وأدركت ناسًا بالمدينة كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فسكت الناس عن عيوبهم".
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً[الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين ودمّر اللهم أعداءك أعداء الدين, واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه، وأوله وآخره، ونسألك الدرجات العلا من الجنة يا رب العالمين.
اللهم أعنا ولا تعن علينا وانصرنا ولا تنصر علينا وامكر لنا ولا تمكر علينا, واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين لك مخبتين لك أواهين منيبين. اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وثبت حجتنا وسدد السنتنا واسلل سخيمة قلوبنا.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل اللهم من خذل الإسلام والمسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، يا سميع الدعاء، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين لإعلاء كلمتك في فلسطين وفي كشمير وفي الشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.