القدس في خطر... والأقصى مهدّد!
لم ينتظر بنيامين نتانياهو طويلاً حتى يكشّر عن أنيابه ويكشف ما هو معروف
عنه وعن حكومته الليكودية العنصرية المتطرفة وسياستها الخرقاء ويعلن
بصراحة وقحة عن حقيقة توجهاتها وبرنامجها التوسعي الهادف لتحقيق أغراض
الصهيونية الحاقدة ونياتها المبيتة وفق الخطوط الرئيسة الآتية:
* دفن القضية الفلسطينية وإلغاء الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني صاحب الأرض والشرعية وحرمانه من حقوقه.
* ضرب السلطة الوطنية الفلسطينية الشرعية ومعها منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
*
تكريس الانقسام الفلسطيني وتحويل الخلاف بين «فتح» و «حماس» الى قطيعة
نهائية تتمثل في الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة وصولاً الى دفن حلم
إقامة دولة فلسطينية مستقلة موحدة ومتواصلة الأطراف واستبدالها بكانتونات
وأشلاء دويلات هزيلة لا كيان لها ولا سيادة ولا استقلال ولا شرعية
فلسطينية وعربية ودولية.
* إلغاء كل الاتفاقات السابقة ومن ضمنها
اتفاقيات أوسلو وما تبعها من كامب ديفيد وطابا وخريطة طريق وصولاً الى
أنابوليس، وبالتالي قطع الطريق على أي مبادرة للسلام وفي مقدمها المبادرة
العربية وما يمكن ان يتبناه منها ومن غيرها الرئيس الأميركي باراك أوباما.
* التزامن بين إحباط مسيرة السلام والإسراع بتهويد الضفة وإقامة المستعمرات الاستيطانية بعد مصادرة المزيد من الأراضي العربية.
*
الترويج لأفكار جهنمية وتضليلية تروج للتركيز على الاقتصاد أو ما يسمى
زوراً بالكيان الاقتصادي الفلسطيني في محاولة لابتزاز الشعب الفلسطيني
المحاصر والمهدد في حياته اليومية ولقمة عيشه ومصير أطفاله والحالة
المزرية التي وصل إليها بعد ضرب البنى التحتية وقطع الأرزاق بتقليص فرص
العمل وتشديد الضغوط لتركيع الشعب الفلسطيني وحمله على القبول بالفتات تحت
إشراف الإسرائيلي المستغل والجشع.
* استفزاز الفلسطينيين داخل
فلسطين المحتلة عام 1948 وفرض إجراءات تعجيزية بحقهم لحملهم على الهجرة او
القيام بردود فعل يتم استغلالها لتنفيذ مؤامرة الترحيل (الترانسفير) التي
يتبناها عتاة الصهيونية وعلى رأسهم المتطرف افيغدور ليبرمان الذي يدعو
صراحة لرمي العرب في البحر.
* التركيز على قضية «يهودية» إسرائيل
مما يعني حتماً سحب الجنسية وحقوق المواطنة من اكثر من مليون فلسطيني عربي
مسيحي ومسلم وهو ما عبر عنه صراحة نتانياهو الذي واجه المبعوث الرئاسي
الأميركي جورج ميتشيل بشرط اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة قومية
لليهود مقابل الاعتراف بدولة فلسطينية للفلسطينيين، وهذا من رابع
المستحيلات لأن مثل هذا الاعتراف يعني حكماً نهاية القضية الفلسطينية
وتكريساً للمؤامرة الصهيونية الكبرى المرسومة منذ اكثر من قرن. وعلى رغم
محاولة نتانياهو الماكرة بالتراجع خطوة عن إعلانه نتيجة الضغط الأميركي،
فإن لسانه فضحه مهما حاول إخفاء نياته الخبيثة التي حاول تجميلها قبل
زيارته الى واشنطن التي سبقه إليها الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز للتسويق
له ولمشروع سلام زائف يخفي هذه النيات ويظهر بمظهر الراغب في السلام وفق
شروط تعجيزية يرفضها العرب.
* تسريع خطوات تهويد القدس العربية
بالتزامن مع تشجيع المتطرفين الصهاينة على تكرار الهجمات على المسجد
الأقصى المبارك تمهيداً لهدمه وإقامة ما يسمى بهيكل داود مكانه ما سيؤدي
حتماً الى انفجار الأوضاع ليس في القدس وفلسطين المحتلة فحسب بل في العالم
العربي والإسلامي وعلى امتداد العالم كله.
وقد تابعنا في الأيام
القليلة الماضية مشاهد هذه الأعمال الطائشة في القدس المعزولة عن بقية
الأراضي المحتلة عام 1967 بجدار يحيط بها من كل جانب، وكيف حاولت جماعات
متطرفة اقتحام المسجد لإقامة صلوات الفصح اليهودي في ساحاته في مسيرة
«حملة شد الظهر» وفق مؤامرة الهدم والتخطيط لبناء الهيكل المزعوم. كما
تابعنا الإجراءات الصهيونية المتسارعة لمحو الهوية العربية للقدس الشريف
وشملت الإنذارات الظالمة لسكان الأحياء العربية تمهيداً لهدم منازلها
وإقامة مستعمرات جديدة تهود المدينة بكاملها بعد ان عملت معاول الهدم على
تشويه صورتها التاريخية ومعانيها الإنسانية بالتعايش بين الأديان والتآخي
بين المسلمين والمسيحيين اصحاب الحق التاريخي في إطار «العهدة العمرية»
التي أعطاها سيدنا عمر بن الخطاب للبطريرك صفرانيوس.
وهنا بيت
القصيد مما يدفعنا لإطلاق نواقيس الخطر والتحذير من هذه المؤامرة الخبيثة
التي ستشعل نار الأحقاد وتمتد الى المنطقة بأسرها، وربما تشعل نار حرب
دينية كبرى تحرق الأخضر واليابس في العالم كله.
إنه إنذار بعيد عن
المبالغة بل ينطلق من الواقع، ثم من المعاني الدينية والتاريخية
والإنسانية للقدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية، لا سيما المسجد الأقصى
المبارك. فالقدس ترزح تحت نير احتلال غاشم وظالم، وهذه المدينة اللؤلؤة
مهددة بالتهويد، ومقدساتها الإسلامية والمسيحية معرضة للتدمير لسلخها
كلياً عن واقعها العربي بعد ان دنّسها الصهاينة وأمعنوا فيها تخريباً
وتهويداً بشكل منهجي متواصل ومبرمج مع إجراءات المصادرة والهدم وترويج
المزاعم ومحاولات إحراق المسجد الأقصى المبارك وتهديد أسسه وبنيانه من
خلال عمليات الحفر والتنقيب التي يؤكد الخبراء وعلماء الآثار، وبينهم
إسرائيليون، انهم لم يعثروا على معلم إسرائيلي واحد بين الأنقاض.
وعندما
نطالب بالجهاد لتحرير القدس والتصدي للمؤامرة الغادرة لا نطالب بالحجارة
والأبنية بل نهدف لاستعادة الأماكن المقدسة نظراً لما تحمله من معان سامية
في نفوس المؤمنين، ولأن العدوان على قدسيتها ومحاولات القضاء عليها ما هو
في الحقيقة إلا عدوان على الديانات السماوية والأخلاق الفاضلة ومؤامرة على
كل مسلم ومسيحي ومؤمن في شتى أنحاء المعمورة.
وأذكر أنني قمت مع
أخي الحاج علي الدجاني بتوثيق كل هذه المعاني والمستندات والحقائق في كتاب
أصدرناه عام 1970 بعد مؤامرة حريق المسجد الأقصى، ثم أصدرنا الجزء الثاني
عام 1987 تحت عنوان «القدس إيمان وجهاد» لفضح ما يقوم به الصهاينة والدعوة
للتنبه للأخطار التي ستنجم عن إتمامها، لا قدر الله.
وقد خص الله
عز وجل المسجد الأقصى المبارك بمعجزة باهرة، معجزة الإسراء والمعراج،
وجعله سبحانه قبلة الإسلام الأولى، فهو أولى القبلتين وثالث الحرمين
الشريفين في قوله عز وجل «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام
الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، لنريه من آياتنا، إنه هو السميع
البصير» (سورة الإسراء - آية واحد).
وعن النبي صلى الله عليه وسلم
في حديثه الشريف: «لا تشد الرحال إلا الى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد
الحرام، ومسجد الأقصى» (رواه البخاري وأبو مسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي). وهناك أحاديث شريفة كثيرة ومعطيات وأحداث تاريخية كثيرة تثبت
قدسية المدينة والمسجد الأقصى ومسجد الصخرة المشرفة التي يعتبر مشهدها
المرتفع معجزة أخرى. اما ما يسمى بحائط المبكى الذي هوده الصهاينة، فما هو
إلا حائط البراق، أي الجدار الغربي للمسجد الأقصى، وهو حائط عربي إسلامي
يدعى البراق النبوي الشريف حيث ترجل الرسول (صلى الله عليه وسلم) حين
وصوله الى بيت المقدس ليلة الإسراء.
وسأعود مرة أخرى الى المعاني
الدينية الإسلامية ووثائق إثبات عروبة القدس عبر التاريخ في مقال خاص لكن
ما يهمنا هنا التنبيه للمخاطر القائمة ليس على المسلمين فقط بل على
المسيحيين ايضاً، إذ ان العدو عمد منذ الاحتلال الى تهجير المسيحيين
وتهويد مقدساتهم وتدنيسها بشكل منهجي منها داخل السور: كنيسة القيامة التي
شيدت عام 335م وطريق الآلام (فيها تسع مراحل) وعشرات الكنائس والأديرة
لجميع الطوائف المسيحية من دون استثناء.
وأدلى البطريرك مكسيموس
الخامس حكيم البطريرك الراحل للكاثوليك لأنطاكية وسائر المشرق بشهادة
تاريخية امام لجنة تحقيق دولية أثبت فيها اعمال التدنيس التي تعرضت لها
المقدسات المسيحية ونسف الكنائس بالديناميت، كما أدلى المطران ثيودوروس
مطران الأرثوذكس في عمان وغيره من رجال الدين المسيحيين بشهادات مماثلة عن
عمليات الاعتداء والتدنيس وكيف دخل الصهاينة الى القبر الذي يعتقد أن
السيد المسيح دفن فيه في كنيسة القيامة وحطموا القناديل والصور وشتموا
السيد المسيح بألفاظ بذيئة، وكيف دخلوا بيوت الله وارتكبوا الموبقات فيها،
إضافة الى مصادرة الكثير من الأراضي العائدة للكنائس وللمسيحيين بأوراق
مزورة: لبناء المستعمرات عليها.
كل هذه الحقائق تدعو الى اقصى
درجات القلق لأن إسرائيل في عهد تحالف الليكود والمتطرفين وصلت الى
المرحلة الأخيرة من مخطط التهويد وفرض واقع خطير نأمل ان يتنبه له العالم
ولا سيما البابا بنيديكتوس السادس عشر الذي سيزور المدينة الشهر المقبل.
كما ان الرئيس أوباما نفسه معني بهذا الأمر لأن أي خلل أو نسف لعملية
السلام سيؤدي الى إفشاله وهو في بداية عهده، وبالتالي مواجهة حالة عداء لا
مثيل لها وزيادة حدة الأزمة المالية العالمية، وهذا يتطلب منه مواجهة
التحدي بالضغط على اسرائيل لردعها وحملها على الرضوخ لإرادة السلام
المتمثلة في المبادرة العربية، ليس من اجل عيون العرب بل من اجل حماية
المصالح الأميركية المعرّضة للتهديد الأكيد في حال تنفيذ المؤامرة
الصهيونية.
فقد رمى نتانياهو قفاز التحدي في وجه أوباما والعالم
والعرب، وأعلن «في أول دخوله عقبات على طوله» عندما كشف عن نياته الخبيثة
وبات من واجب الجميع رد الصاع صاعين له ولزمرته المتطرفة. أما مسؤولية
العرب، قيادات وشعوباً، فهي تاريخية وضرورية وملحة تبدأ بتوحيد الصفوف
والمواقف وحل الخلافات وتحقيق المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية وتمتد نحو
التحرك الدولي الفاعل والضغط على الولايات المتحدة لحملها على الإسراع الى
درء الأخطار ووضع حد للعهر الصهيوني.
تبقى نقطة واحدة هي امل ورجاء
ودعوة لجميع الأطراف العربية والفلسطينية بالذات بأن لا تقوم بأي خطوة غير
مدروسة حتى لا تستغلها اسرائيل وتتاجر بها كذريعة للتملص من إرادة السلام
والخروج من عنق الزجاجة التي وضعت نفسها داخله.